فشل الوساطة في غزة- تهميش عربي ودعم لإسرائيل؟

المؤلف: فهمي هويدي10.10.2025
فشل الوساطة في غزة- تهميش عربي ودعم لإسرائيل؟

يبدو أن جهود الوساطة العربية في حرب غزة بحاجة ماسة إلى إعادة تقييم جوهرية، ليس فقط من حيث التسمية، بل والأهم من ذلك، من حيث طبيعة المهمة الموكلة إليها. ففي العادة، نفهم أن الوساطة تتولاها أطراف محايدة تسعى إلى تيسير الحوار والتواصل بين طرفين متنازعين، وتبذل قصارى جهدها لتقريب وجهات النظر، سعياً نحو حل يرضي الجميع.

لكن في الحالة الراهنة، يبدو المشهد مختلفًا تمامًا، إذ يصعب العثور على أي طرف يمكن وصفه بالمحايد بين الوسطاء الثلاثة: الولايات المتحدة ومصر وقطر. فالعالم العربي، بطبيعة الحال، ينتمي قلباً وقالباً إلى القضية الفلسطينية، في حين أن الولايات المتحدة تقف صفًا واحدًا مع إسرائيل، بل تتشارك معها المصالح والرؤى بشكل وثيق. أما الدور العربي، فيُحسب على "محور الاعتدال" في المنطقة، بينما تنخرط أميركا بشكل كامل في "جبهة الاعتداء" مع إسرائيل.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن المشاورات الحقيقية لا تجري مع الأطراف العربية، بل تتركز بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل أساسي، وهو أمر بات واضحًا للمراقبين كافة. وإذا ما استرجعنا معطيات موازين القوى، فسندرك سريعًا أن الطرف الأقوى عسكريًا وسياسيًا لا يسعى إلى التشاور مع الطرف الفلسطيني، بل يحاول فرض إرادته عليه، مستغلًا تفوقه العسكري والسياسي.

لذا، لن نكون مبالغين إذا ما قلنا إن تركيبة لجنة الوساطة الحالية تعاني من خلل جوهري في التوازن، إذ عمدت إلى تهميش الدور العربي وتقليص هامش حركته، ليصبح الهدف الأساسي هو ممارسة الضغوط على حركة حماس وابتزازها بكل الطرق الممكنة لصالح إسرائيل.

وبما أنني لا أشك قيد أنملة في سوء نية الطرف الأميركي-الإسرائيلي، فلا أتردد في القول بأن المطلوب من الوسطاء العرب هو أن يلعبوا دور "شهود الزور"، الذين يمررون ما تريده إسرائيل بعد تغليفه بصياغات دبلوماسية فضفاضة ومضللة.

فعلى سبيل المثال، حين يتحدث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن معارضة واشنطن الشديدة والحازمة للاحتلال طويل الأمد، فإن هذه الصياغة المنمقة تخفي موافقة ضمنية على الاحتلال قصير الأمد. وحين يُعلن عن انسحاب إسرائيل من المناطق المكتظة بالسكان، فإن ذلك يعني استمرار الاحتلال في المناطق غير المأهولة، التي تم تدميرها بالفعل.

وإذا ما تم تعليق بعض القضايا بدعوى إرجائها إلى مفاوضات لاحقة، فإن ذلك يعني تأييدًا لتجميدها إلى أجل غير مسمى. وهذا ما يستدعي إلى الأذهان مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير، الذي أعرب عن قلقه إزاء توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، رغم الجوائز الشكلية التي مُنحت للفلسطينيين، وتساءل: "لماذا التوقيع وكان بوسعنا أن نحصل على ما نريد من خلال التفاوض لعشر سنوات أو أكثر دون أن نوقع على أي شيء؟"

إزاء الحصانة التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي، فإن محاولة توظيف الطرف العربي لدعم إسرائيل تسيء إلى سمعة الوسطاء

لا أريد التقليل من جهود الوسطاء العرب، لأنني على يقين بأنهم يبذلون أقصى ما في وسعهم في إطار سعيهم الدؤوب لوقف القتال، مع التزامهم الراسخ بالتوصل إلى حل عادل ومشرف للقضية الفلسطينية. لكنني أتحدث عما تكشف أثناء الممارسة العملية، خصوصًا أننا نستعرض سجل الأطراف المعنية، ونستحضر خلفياتها التي كشفت عن النوايا الحقيقية والأهداف البعيدة والخفية للطرف الأميركي-الإسرائيلي.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال توقيت إطلاق فكرة "الوساطة السياسية"، وكيف أنها طُرحت بعد مرور ثمانية أشهر على بدء الحرب في غزة، حين تبيّن فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي هدف استراتيجي له من خلال الضغط العسكري.

وفي الوقت نفسه، ثمة علاقة وثيقة بين تنشيط الدور السياسي الأميركي العلني واقتراب موعد حسم انتخابات الرئاسة الأميركية، وحرص واشنطن على كسب أصوات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لصالح مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس في مواجهة منافسها الجمهوري.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى تكثيف حملات الإبادة خلال الأشهر الأخيرة، وتوسيع نطاقها ليشمل الضفة الغربية. وإذا كان ذلك يمثل ضغطًا على حماس لتليين موقفها إزاء شروطها الأساسية لإبرام الصفقة، إلا أنه صار بمثابة ضغط وإحراج للطرف العربي، وهو ما يبرر طرح أسئلة ملحة حول ما تبقى من دور للوساطة في ظل تصعيد الحرب، وتوسيع نطاقها وجدواها.

وهي أسئلة تفرض نفسها بقوة، طالما أن الطرف الإسرائيلي لا يكتفي بمواصلة الإبادة وتوسيع نطاقها، وإنما أيضًا يواصل تحدي محكمتي العدل والجنائية الدوليتين والأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويمارس التحدي والعربدة التي لا تتورع عن الاستخفاف بالرئيس الأميركي ذاته، وإضعاف موقفه الانتخابي بخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الذي استقبله بحسبانه تأييدًا للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وتعويلًا على فوزه بالرئاسة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. وهو ما دعا كاتب صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان إلى القول بأن الرئيس بايدن وقف إلى جانب نتنياهو في كل مراحل الحرب، لكن الأخير لم يتورع عن طعنه في الظهر في ختام ولايته.

وخلاصة القول أن نتنياهو، الذي يتخبط في إدارة الحرب حتى الآن، يتصرف وكأنه حقق نصرًا حاسمًا، فيتعنت في فرض شروطه، ويضيف إليها ما يشاء، مما يؤدي إلى إطالة أمد القتال وإفشال مهمة الوساطة. وقد انتقد الكثيرون هذه السياسة، حتى أن الكاتب الصهيوني الشهير آري شافيت حذر في صحيفة "هآرتس" من عواقبها الوخيمة، في مقال عنوَنَه "إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة".

وتعكس استطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل انخفاضًا حادًا في شعبية نتنياهو، إذ تُظهر النتائج أن 61% من الإسرائيليين لا يؤيدون بقاءه في رئاسة الحكومة، ولا يثقون في طريقته في إدارة الحرب، خاصة بعد حادث مقتل 6 أسرى داخل أحد الأنفاق برفح في أواخر الشهر الماضي. وهو الحدث الذي أعاد المظاهرات المناهضة له مرة أخرى في تل أبيب، مدعومة بإضرابات غير مسبوقة.

ومن اللافت أن التصريحات الرسمية الأميركية قد دأبت خلال الأسابيع الأخيرة على الحديث عن تعطيل حركة حماس لعقد صفقة وقف القتال من خلال إضافتها شروطًا جديدة لموقفها (وهو ما نفته الحركة بشدة)، وتذرعت واشنطن بذلك لتأجيل إعلان الورقة الأميركية الأخيرة المزمع تقديمها إلى الطرفين، ولم يكن هناك تفسير لذلك سوى تحميل حماس وحدها المسؤولية عن التعطيل، دون أي إشارة إلى دور نتنياهو، وهو ما أصبحت تندد به الأغلبية الساحقة من المعلقين في داخل إسرائيل وخارجها، باستثناء مسؤولي الخارجية الأميركية. في حين ألمح إليه الرئيس بايدن بإشارة خجولة قال فيها إن صاحبهم "لم يقم بما يجب".

وقد فُسرت حملة إدانة حماس باعتبارها دعوة موجهة للوسطاء العرب لكي يجددوا ويكثفوا الضغط على الحركة لكي تقبل بالأفكار الأميركية التي قُدمت لوقف القتال، رغم أن الحركة اعتبرتها متماهية مع الموقف الإسرائيلي.

لم يعد أمام حركة حماس خيار سوى الاستمرار في المقاومة أو انتظار الإبادة، بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون، مما يجعل أي تراجع عن الموقف الحالي غير ممكن

والشاهد أن الخيارات قد ضاقت إلى حد كبير إزاء ثبات مقاتلي المقاومة الفلسطينية وإصرارهم على الوقف الدائم للقتال والانسحاب الكامل وضمان حرية العودة إلى القطاع. وفي المقابل، رد نتنياهو بإعلان رفض قاطع لتلك الطلبات الأساسية والتمادي في العدوان، بحيث لم يترك مجالًا لتحرك الوسطاء إلا في اتجاه واحد، وهو القبول بمقترحات تفتح الأبواب لتلبية المطالب الإسرائيلية، وهو الدور الذي تقوم به الإدارة الأميركية الداعمة لإسرائيل.

والملاحظة الأساسية في هذا الصدد هي أن حركة حماس لا تستطيع التراجع قيد أنملة عن موقفها وثوابتها المعلنة في المعركة بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون جراء القتال. ولم يعد أمامهم إلا الاستمرار في المقاومة أو انتظار الإبادة.

وهو ذات النداء الذي أطلقه زعيم مقاومة الهنود الحمر "تكومسه" في خطبته الشهيرة التي وجهها إلى اجتماع ممثلي القبائل الهندية في بداية القرن التاسع عشر، وأراد بها أن يستنفرهم لمواجهة غزو من وصفهم بالغرباء ذوي الوجوه الشاحبة الذين جاؤوا من البلاد البعيدة لسرقة بلاده وإقامة ما سمي بالولايات المتحدة الأميركية، وهي ذات الأوصاف التي تنطبق على الغرباء الذين شرعوا في غزو فلسطين منذ 1948 وحتى الآن.

صحيح أن الدنيا تغيرت عما كانت عليه قبل قرنين من الزمان. فالفلسطينيون لا يزالون يقاتلون الغرباء ذوي الوجوه الشاحبة الذين جاؤوا لسرقة وطنهم، ورغم أنهم، مثل الهنود الحمر، خاضوا معركتهم بمفردهم، إلا أنهم تميزوا عنهم باستمرار نضالهم في وجود أمة محيطة ظلت شعوبها تحتضنهم طوال الوقت. وهي لم تقم بما عليها حقًا، لكنها لم تمت.

ومما يدعو للأسف أن تلك الأمة لديها إمكانات هائلة وفرت لها خيارات عديدة للمقاومة والمساندة أو التلويح بالضغط على الطرف الأميركي-الإسرائيلي، على الأقل على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي (فلا استدعاء للسفراء ولا مقاطعة من أي نوع، ولا تلويح بسلاح النفط)، وتلك ثغرة ليست هينة أضعفت من فاعلية دور الوسطاء العرب.

وحتى الآن، لم يتم الإعلان رسميًا عن فشل جهود الوساطة، لكن الثابت المؤكد أنها لم تنجح. وإزاء الحصانة التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي، فإن محاولة توظيف الطرف العربي لدعم إسرائيل لا تسيء إلى سمعة الوسطاء فحسب، بل تشكل إهانة بالغة لهم أيضًا.

الأمر الذي يستدعي سؤالًا صعبًا ومؤرقًا هو: هل لا يزال الوسطاء يعلقون الأمل على جدوى استمرارهم في مهمتهم، أم أن الأجدى لهم أن يلجؤُوا إلى أضعف الإيمان وينسحبوا مادام أنهم لا يمكّنون من أداء واجبهم على الوجه الأمثل؟ وفي هذه الحالة، ما هو الثمن الذي يتعيّن دفعه جراء ذلك؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة